فصل: 58- باب جواز الأخذ من غير مسألة وَلا تطلع إليه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تطريز رياض الصالحين



.58- باب جواز الأخذ من غير مسألة وَلا تطلع إليه:

538- عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعْطيني العَطَاءَ، فَأقُولُ: أعطِهِ مَنْ هُوَ أفْقَرُ إِلَيْهِ مِنّي. فَقَالَ: «خُذْهُ، إِذَا جَاءكَ مِنْ هَذَا المَال شَيْءٌ وَأنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ، فَخُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ، فَإنْ شِئْتَ كُلْهُ، وَإنْ شِئْتَ تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا لا، فَلا تُتبعهُ نَفْسَكَ» قَالَ سَالِمٌ: فَكَانَ عَبدُ الله لا يَسألُ أحَدًا شَيْئًا، وَلا يَرُدُّ شَيْئًا أُعْطِيَه. متفقٌ عَلَيْهِ.
(مُشرف): بالشين المعجمة: أيْ متطلع إِلَيْهِ.
قال البخاري: باب من أعطاه الله شيئًا من غير مسألة، ولا إشراف نفس {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19].
وذكر الحديث: قال الحافظ: وفي الحديث أنَّ للإمام أنْ يعطي بعض رعيته إذا رأى لذلك وجهًا وإن كان غيره أحوج إليه منه، وإن ردَّ عطية الإمام ليس من الأدب.

.59- باب الحث عَلَى الأكل من عمل يده والتعفف به عن السؤال والتعرض للإعطاء:

قَالَ الله تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا في الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله} [الجمعة: 10].
هذا أمر إباحة بعد النهي عن البيع، وكان عراك بن مالك إذا صلَّى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد، فقال: اللَّهُمَّ إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين.
539- وعن أَبي عبد الله الزبير بن العَوَّام رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأَنْ يَأخُذَ أَحَدُكُمْ أُحبُلَهُ ثُمَّ يَأتِيَ الجَبَلَ، فَيَأْتِيَ بحُزمَةٍ مِنْ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا، فَيكُفَّ اللهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْألَ النَّاسَ، أعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ». رواه البخاري.
540- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأَنْ يَحْتَطِبَ أحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَسْألَ أحدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ». متفقٌ عَلَيْهِ.
فيه: الحضُّ على التعفف عن المسألة، والتنزه عنها، ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق، وارتكب المشاق، لما يدخل على السائل من ذل السؤال، وعلى المسؤول من الحرج.
541- وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَ دَاوُدُ- عليه السلام- لاَ يَأكُلُ إلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ». رواه البخاري.
كان داود- عليه السلام- مَلِكًا نبيًّا، وكان ينسج الدروع ويبيعها، ولاَ يأكلُ إلا من ثمنها.
542- وعنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَ زَكرِيّا- عليه السلام- نَجَّارًا». رواه مسلم.
فيه: جواز الصنائع، وأن النجارة صناعة فاضلة، وأنها لا تسقط المروءة.
543- وعن المقدام بنِ مَعْدِ يكرِبَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا أكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أنْ يَأكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِه، وَإنَّ نَبيَّ الله دَاوُدَ- عليه السلام- كَانَ يَأكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ». رواه البخاري.
الاكتساب لا ينافي التوكُّل، فقد كان للجنيد دُكانٌ في البزازين، وكان يرخي ستره عليه، فيصلي ما بين الظهر والعصر، وكان إبراهيم بن أدهم يكثر الكسب وينفق منه ضرورته، ويتصدق بباقيه، وكان أحب طرقه إليه حفظ البساتين وخدمتها، لأنه تتم له فيها الخلوة.
وفي الحديث الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ أَوْ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ».

.60- باب الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير ثقةً بالله تعالى:

الكرم: الإنفاق بطيب نفس، والجود: الإنفاق فيما يعظم خطره ونفعه.
قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا أنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39].
أي: ما أنفقتم في رضا الله عزَّ وجلّ فهو يخلفه في الدنيا بالمال، أو بالقناعة، وفي الآخرة بالجزاء المضاعف، قال الله تعالى: {مَّنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245].
وقال تَعَالَى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272].
أي: ما تنفقوا من خير فثوابه لأنفسكم، فلا تمنُّوا به، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله.
قال عطاء: إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله.
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} ثوابه. {وَأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} أي: لا تنقصون.
وقال تَعَالَى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فإنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273].
أي: فيجازيكم بقدره.
544- وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا حَسَدَ إلا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ في الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا ويُعَلِّمُهَا». متفقٌ عَلَيْهِ.
ومعناه: يَنْبَغي أنْ لا يُغبَطَ أحَدٌ إلا عَلَى إحْدَى هَاتَيْنِ الخَصْلَتَيْنِ.
الحكمة: العلم. وضابطها ما منع الجهل، وزجر عن القبيح، والعلم النافع هو القرآن والسنَّة.
545- وعنه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أيُّكُم مَالُ وَارِثِهِ أحبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟» قالوا: يَا رسول اللهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إلا مَالُهُ أحَبُّ إِلَيْهِ. قَالَ: «فإنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالَ وَارِثِهِ مَا أخَّرَ». رواه البخاري.
فيه: التحريض على ما يمكن تقديمه من المال في وجوه البر لينتفع به في الآخرة.
546- وعن عَدِيِّ بن حَاتِمٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ». متفقٌ عَلَيْهِ.
فيه: أن الصدقة تقي من النار، ولو كانت قليلة، وفي الحديث الآخر: «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النار».
547- وعن جابرٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ، فقالَ: لا. متفقٌ عَلَيْهِ.
كان صلى الله عليه وسلم لا ينطق بالرد، فإن كان عنده المسؤول، وساغ الإعطاء أعطى، وإلا وعد كما قال تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا} [الإسراء: 28].
548- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصبحُ العِبَادُ فِيهِ إلاَّ مَلَكَانِ يَنْزلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا». متفقٌ عَلَيْهِ.
فيه: الحض على الإنفاق ورجاء قبول دعوة الملك.
549- وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ الله تَعَالَى: أنفِق يَا ابْنَ آدَمَ يُنْفَقْ عَلَيْكَ». متفقٌ عَلَيْهِ.
الإنفاق الممدوح: ما كان في الطاعات، وعلى العيال والضيفان.
550- وعن عبد اللهِ بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّ رَجُلًا سَألَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإسلامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ». متفقٌ عَلَيْهِ.
المراد: الإطعام على وجه الصدقة، والهدية، والضيافة، ونحو ذلك.
وقوله: «وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف». المراد به: إفشاء السلام على من لقيت.
وفيه: حض على ائتلاف القلوب واستجلاب مودتها.
551- وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرْبَعُونَ خَصْلَةً: أعْلاهَا مَنِيحةُ العَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بخَصْلَةٍ مِنْهَا؛ رَجَاءَ ثَوَابهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا، إلاَّ أدْخَلَهُ الله تَعَالَى بِهَا الجَنَّةَ». رواه البخاري. وقد سبق بيان هَذَا الحديث في باب بَيَانِ كَثْرَةِ طُرُقِ الخَيْرِ.
في هذا الحديث: أن الإنسان ينبغي له أن يحرص على فعل الخير ولو كان قليلًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق».
قال ابن بطال: ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان عالمًا بالأربعين، وإنما لم يذكرها لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها، وذلك خشية أنْ يكون التعيين لها مزهدًا في غيرها من أبواب البر.
552- وعن أَبي أُمَامَة صُدّيِّ بن عَجْلانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ أَن تَبْذُلَ الفَضلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأن تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، وَلاَ تُلاَمُ عَلَى كَفَافٍ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَاليَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى». رواه مسلم.
الفضل: ما زاد على ما تدعو إليه حاجة الإنسان لنفسه ولمن يمونه من زوجة، وعبد، ودابة، وقريب؛ فلا يلام على إمساك ما يكف به الحاجة لذلك.
553- وعن أنسٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الإسْلاَمِ شَيْئًا إلا أعْطَاهُ، وَلَقَدْ جَاءهُ رَجُلٌ، فَأعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ، أسْلِمُوا فإِنَّ مُحَمَّدًا يُعطِي عَطَاءَ مَن لا يَخْشَى الفَقْر، وَإنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُريدُ إلا الدُّنْيَا، فَمَا يَلْبَثُ إلا يَسِيرًا حَتَّى يَكُونَ الإسْلاَمُ أحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا. رواه مسلم.
في هذا الحديث: جواز إعطاء المؤلفة قلوبهم ترغيبًا في الإسلام.
وفيه: كمال معرفته صلى الله عليه وسلم بدواء كل داء.
554- وعن عمر رضي الله عنه قَالَ: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قَسْمًا، فَقُلْتُ: يَا رسولَ الله، لَغَيْرُ هؤلاَءِ كَانُوا أحَقَّ بِهِ مِنْهُمْ؟ فَقَالَ: «إنَّهُمْ خَيرُونِي أنْ يَسألُوني بالفُحْشِ، أَوْ يُبَخِّلُونِي، وَلَسْتُ بِبَاخِلٍ». رواه مسلم.
في هذا الحديث: ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من عظيم الخلق، والصبر، والحلم، والإعراض عن الجاهلين.
555- وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْن، فَعَلِقَهُ الأعْرَابُ يَسْألُونَهُ، حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَة، فَخَطِفَت رِدَاءهُ، فَوَقَفَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «أعْطُوني رِدَائي، فَلَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هذِهِ العِضَاهِ نَعَمًا، لَقَسَمْتُهُ بَينَكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلا كَذّابًا وَلا جَبَانًا». رواه البخاري.
«مَقْفَلَهُ» أيْ: حَال رُجُوعِه. وَ«السَّمُرَةُ»: شَجَرَةٌ. وَ«العِضَاهُ»: شَجَرٌ لَهُ شَوْكٌ.
في هذا الحديث: ذم البخل، والكذب، والجبن.
وفيه: ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الحلم وحسن الخلق، والصبر على جفاة الأعراب، وجواز وصف المرء نفسه بالخصال الحميدة عند الحاجة.
556- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَال، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلا عِزًّا، وَمَا تَواضَعَ أحَدٌ لله إلا رَفَعَهُ اللهُ- عز وجل». رواه مسلم.
في هذا الحديث: أن الصدقة لا تنقص المال بل تزيده، لما تدفعه عنه الصدقة من الآفات، وتنزل بسبها البركات.
وفيه: أن من عُرِف بالعفو والصفح ساد وعظم في قلوب الناس، وأن من تواضع رفعه الله في الدنيا والآخرة.
557- وعن أَبي كبشة عمرو بن سعد الأنماري رضي الله عنه أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثَلاَثَةٌ أُقْسمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً صَبَرَ عَلَيْهَا إلا زَادَهُ اللهُ عِزًّا، وَلا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسألَةٍ إلا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقرٍ- أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- وَأُحَدِّثُكُمْ حَديثًا فَاحْفَظُوهُ»، قَالَ: «إنَّمَا الدُّنْيَا لأرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا وَعِلمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقًّا، فَهذا بأفضَلِ المَنَازِلِ. وَعَبْدٍ رَزَقهُ اللهُ عِلْمًا، وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أنَّ لِي مَالًا لَعَمِلتُ بِعَمَلِ فُلانٍ، فَهُوَ بنيَّتِهِ، فأجْرُهُمَا سَوَاءٌ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ الله مَالًا، وَلَمَ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخبطُ في مَالِهِ بغَيرِ عِلْمٍ، لا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلا يَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقًّا، فَهذَا بأَخْبَثِ المَنَازِلِ. وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالًا وَلا عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بنِيَّتِهِ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ).
قوله: «ما نقص مال عبد من صدقة». يشهد له قوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].
قوله: «ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزًّا»، يشهد له قوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43].
قوله: «ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر» وهذا مشاهد بالحس ويشهد له قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].
قوله: «إنما الدنيا لأربعة...» إلخ فالأول عَلِمَ وعَمِلَ صالحًا. والثاني: عَلِمَ وعزم على العمل الصالح لو قدر، فأجرهما سواء والثالث: لم يعْلَمْ ولم يعمَلْ في ماله صالحًا. والرابع: لم يعلَمْ وعزم على العمل السيِّئ، لو قدر على مال فوزهما سواء.
وقال بعض العارفين:
أربعة تعجبت من شأنهم ** فالعينُ في فكرتهم ساهرة

فواحد دنياه مبسوطة ** قد أوتي الدنيا مع الآخرة

وآخر دنياه مقبوضة ** وبعدها آخرة وافرة

وثالث دنياه مبسوطة ** ليست له من بعده آخرة

ورابع أسقط من بينهم ** ليست له دنيا ولا آخرة

قال الله تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21].
558- وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا بَقِيَ مِنْهَا؟» قالت: مَا بَقِيَ مِنْهَا إلا كَتِفُها. قَالَ: «بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرُ كَتِفِهَا». رواه الترمذي، وقال: «حديث صحيح».
ومعناه: تَصَدَّقُوا بِهَا إلا كَتِفَها. فَقَالَ: بَقِيَتْ لَنَا في الآخِرَةِ إلا كَتِفَهَا.
فيه: تحريض على الصدقة والاهتمام بها، وألا يكثر المرء ما أنفقه فيها.
559- وعن أسماء بنت أَبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما، قالت: قَالَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُوكِي فَيُوكِي اللهُ عَلَيْكِ».
وفي رواية: «أنفقي أَوِ انْفَحِي، أَوْ انْضَحِي، وَلا تُحصي فَيُحْصِي اللهُ عَلَيْكِ، وَلا تُوعي فَيُوعي اللهُ عَلَيْكِ». متفقٌ عَلَيْهِ.
وَ «انْفَحِي» بالحاء المهملة، وَهُوَ بمعنى «أنفقي» وكذلك «انْضحي».
في هذا الحديث: أن الجزاء من جنس العمل، وأن من منع ما عنده من المال قطع الله عنه مادة الرزق، وهذا مفهوم قوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].
وفيه: الحث على الإنفاق في وجوهه ثقة بالله تعالى.
560- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ: «مَثَل البَخيل وَالمُنْفِقِ، كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَديد مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا المُنْفِقُ فَلا يُنْفِقُ إلا سَبَغَتْ- أَوْ وَفَرَتْ- عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ، وَتَعْفُو أثرَهُ، وأمَّا البَخِيلُ، فَلا يُريدُ أنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إلا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ». متفقٌ عَلَيْهِ.
وَ «الجُبَّةُ»: الدِّرْعُ؛ وَمَعنَاهُ أنَّ المُنْفِقَ كُلَّمَا أنْفَقَ سَبَغَتْ، وَطَالَتْ حَتَّى تَجُرَّ وَرَاءهُ، وَتُخْفِيَ رِجْلَيْهِ وَأثَرَ مَشْيِهِ وَخطُوَاتِهِ.
القبض والشح من جبلة الإنسان قال الله تعالى: {وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100]، والنفقة تستوعب عيوبه.
وفي الحديث: وعدٌ للمنفق بالبركة والصيانة من البلاء والبخيل بضد ذلك. قال الله تعالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
561- وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَصَدَّقَ بعَدلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللهُ إلاَّ الطَّيبَ، فَإنَّ اللهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ». متفقٌ عَلَيْهِ.
«الفَلُوُّ» بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو، ويقال أيضًا: بكسر الفاء وإسكان اللام وتخفيف الواو: وَهُوَ المُهْرُ.
فيه: أن الله لا يقبل الصدقة إلا من الكسب الطيب، وهو الحلال. وفي رواية: «ولا يصعد إلى الله إلا الطيب».
قوله: «بيمينه». قال الترمذي: قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث، ولا نتوهم فيها تشبيهًا ولا نقول كيف، هكذا رُوي عن مالك، وابن عيينة، وابن المبارك، وغيرهم.
562- وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا في سَحَابَةٍ، اسقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأفْرَغَ مَاءهُ في حَرَّةٍ، فإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَت ذَلِكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ المَاءَ، فإذَا رَجُلٌ قَائمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بِمسحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ، ما اسمُكَ؟ قال: فُلانٌ للاسم الذي سَمِعَ في السَّحابةِ، فقال له: يا عبدَ الله، لِمَ تَسْألُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوتًْا في السَّحابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ، يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاسمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا، فَقَالَ: أمَا إذ قلتَ هَذَا، فَإنِّي أنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأردُّ فِيهَا ثُلُثَهُ». رواه مسلم.
«الحَرَّةُ» الأَرْضُ المُلَبَّسَةُ حجَارَةً سَوْدَاءَ. وَ«الشَّرْجَةُ» بفتح الشين المعجمة وإسكان الراءِ وبالجيم: هي مَسِيلُ الماءِ.
في هذا الحديث: أن الصدقة تنتج البركة والمعونة من الله.
وفي الحديث الآخر: «ما نقصت صدقة من مال بل تزيده، بل تزيده».